قصة من الكلم الطيب
قرأت قصة من أدق القصص، عن أحد ولاة العباسيين في الشام، إذ حدثت فتنة في الشام فضيّقوا الخِناق على الوالي فولّى هارباً مع بعض أعوانه، وتَبِعَهُ رجال ليقتلوه فدخل بيتاً واستجار به، وصاحب البيت أجاره، وبقي عنده أربعة أشهر، فأكرمه أبلغ إكرام ولم يسأله عن اسمه، ثم طلب أن يذهب إلى بغداد فجهز له عبداً ودابتين وفرساً وصندوق أمتعة، وطعاماً وشراباً، وألحقه بقافلة، وأكرمه إكراماً منقطع النظير أربعة أشهر يقدم له كل شيء من دون أن يسأله عن اسمه، فلما أزمع السفر إلى بغداد وقد قدم له كل شيء، واعتذر منه يقوله: لعلّنا قصًّرنا في حقِك، ولم يعرف اسمه، وفي بغداد صار هذا الرجل الطريد في منصب صاحب الشرطة يعني وزير داخلية عند المنصور، وبينما كان في حضرة المنصور جاء الجنود برجل يكاد يموت من شدة التعذيب، فألقوه مكبلاً بالقيود في حضرة المنصور، وقالوا هذا فلان جئنا به، ويبدو أن الوقت متأخر فقال المنصور لصاحب شرطته، خذه في عهدتك إلى غد، وكان شخصاً خطيراً جداً، فطبعاً غداً سيُقتل، و لشدة حرص الأمير صاحب الشرطة على حياته على حياته أخذه إلى بيته، وقال له من أين أنت، قال أنا من الشام، قال: وما قصتك، قال: ثارت فتنة هوجاء في الشام وأُلصقت بي هذه التهمة وعُذبت وساقني المنصور إلى بغداد وسيقتلني غداً وأنا بريء، قال له: بارك الله في أهل الشام، أنا كنت في الشام مرةً وثارت فتنة كما تقول والتجأت إلى بيت وذكر له قصته مع صاحب ذاك البيت بشكل مفصّل، وقال: والله لا أتمنى على الله إلا أن يجمعني به لعلي أُقدم له بعض الجميل، قال: إن الله عز وجل قد أكرمك وجمعك به عن غير قصد، فأنا ذلك الرجل، ومن شدة الآلام والتعذيب فإن ملامحه قد تغيرت، يقولون: إن صاحب الشرطة أول شيء فعله وقف مرتعداً وطلب الحداد وقال له فُك قيوده، و فوراً فُكت قيوده، فأدخله الحمام وألبسه أحسن الثياب، وقال أنت حر فافعل ما تشاء، وأنا سأتحمل عنك غداً كل مسؤولية عند الخليفة، وهذا أقل ما أفعله معك، قال: والله لو توجهت إلى أي مكان فسوف يأتي بي ويقتلني، اذهب إليه، فلما دخل على المنصور قال له: أين فلان، والله لو قلت لقد هرب لأضربن عنقك، قال: هذا كفني تحت إبطي واسمع قصتي وافعل بي ما تشاء، قال: هذا الرجل فعل معي كذا وكذا يوم كنت والياً الشام، فيقول المنصور، أكرمك الله، لقد أكرمك وهو لا يعرفك، وأنت الآن فعلت معه ما فعلت وأنت تعرفه، لكني أنا الذي سأكافئه عنك، اذهب إليه واستقدمه إلي وأمنّهُ، فالمنصور عيّنَهُ والياً على الشام، وانقلب أمره، من القتل إلى الولاية. فما هذا المعروف!!.؟
استرعى نظري في القصة، أنه أكرَمَكَ وهو لا يعرِفُك، هذه هي المودة أما أنت فإكرامك له الآن ردُّ جميل لا أكثر، أنت مديون له ولو قدمت نفسك مكانه لما فعلت إلا القليل، هو قدم لك الحياة، فقد كنت مقتولاً، وأدخلك إلى البيت ودافع عنك وقدم لك كل شيء أربعة أشهر واعتذر منك وهو لا يعرفك، الأولى أبلغ من الثانية، قال له: مهما فعلت فلن تكافئه وأنا سأكافئه، واستقدمه، فاعتذر عن قبول الولاية بالشام فأرسل كتاباً إلى والي الشام أن يعتني به وأن يبالغ في إكرامه.. البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديّان لا يموت اعمل ما شئت كما تدين تدان.
تعليقات
إرسال تعليق