صناعة الرجال

صناعة الرجال
إن من معجزات الإسلام العظمى أنه أخرج لنا رجالاً سادوا البلاد والعباد، فبنوا لنا حضارة ما عرف التاريخ مثلها،
واختفت عندهم الذلة والسلبية، والأنانية والغلظة، وحقارة الأهداف وتفاهة الطموح، وأصبح الواحد منهم يوزن بأمة بأجمعها، وكان الفوز والفلاح باتباع أثر هؤلاء الرجال، والوصول إلى ما وصلوا إليه.
سبق لنا أن تحدثنا عن موضوع أسميناه: القابضون على الجمر،
والقابضون على الجمر هم:
المسلمون الذين يتمسكون بدينهم في زمان كثر فيه الشر، وانتشرت فيه المعاصي، وتعددت فيه الفتن.
القابضون على الجمر هم:
الذين يسيرون في طريق الصحابة حتى بعد ألف وأربعمائة سنة أو أكثر من انتهاء جيل الصحابة، وهم لا يأخذون من الأجر كأجر صحابي واحد، بل يأخذون كأجر خمسين صحابياً، وعلى النقيض من هذه الطائفة الرائعة من المسلمين، أعني: طائفة القابضين على الجمر، هناك طائفة أخرى من المسلمين تعاني من مشكلة أعتبرها خطيرة، ألا وهي مشكلة الإحباط من إمكانية تقليد جيل الصحابة، أو التعامل معه كقدوة عملية نستطيع أن نعمل مثلها، فهؤلاء يعتقدون أنه من المستحيل علينا أن نفعل مثلما كان يفعل الصحابة، أو نفكر مثلما كانوا يفكرون، أو نعبد الله عز وجل كما كانوا يعبدون، لماذا يا ترى هذا الإحساس في داخل بعض المسلمين؟
سبق وأن ذكرنا فيما مضى أربعة أسباب لهذا الأمر نذكرها باختصار: أولاً: الاعتقاد بأن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الصحابة كان سبباً في وصولهم إلى هذا المستوى الراقي، وقد ذكرنا أن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مهماً جداً، لكنه ليس حتمياً لتطبيق شرائع الدين، وإلا لما أمر الله عز وجل اللاحقين بنفس التكاليف التي أمر بها الصحابة، والموضوع فيه تفصيل كثير، والذي يريد أن يعرف التفاصيل فليرجع إلى الدرس السابق.
ثانياً: رفع الصحابة رضوان عليهم فوق بشريتهم، والحديث عنهم بشيء من المبالغة التي تؤدي إلى استحالة التطبيق.
ثالثاً: الاعتقاد بأن كل الصحابة تفوقوا في كل المجالات بصورة واحدة، ونسيان أن كل صحابي قد تفوق في مجال من المجالات، وتفوق عليه غيره في مجال آخر، ولن تستطيع كإنسان أن تحصّل إنفاق أبي بكر مع إدارة عمر مع جهاد خالد مع علم عائشة مع فقه عبد الله بن عباس مع حياء عثمان مع قضاء علي، فذلك مستحيل، فالناس التي تنظر للجيل كله كوحدة واحدة صعب عليها أن تقلد كل الجيل، وإنما تقلد واحداً تشعر أنت أن إمكانياتك وقدراتك ومواهبك تتوافق مع المجال الذي هو كان متفوقاً فيه.
رابعاً: تعمد بعض العلماء إغفال أخطاء الصحابة الناتجة عن كونهم بشراً، والبشر جميعاً يصيبون ويخطئون، فالعلماء عملوا ذلك منهم بحسن نية، وحرصاً على تنزيه الصحابة، لكن هذا الأسلوب من التربية أدى إلى اعتقاد أن الصحابة لا يخطئون أبداً، وبالتالي إذا أخطأ المسلم الآن فإنه يحبط في أن يصل يوماً ما إلى ما وصل إليه الصحابي.
إذاً هذه أربعة أسباب أدت إلى إحساس بعض المسلمين أو كثير من المسلمين إلى أنه صعب عليه أن يقلد الصحابة، فلا يفعل كثيراً من الطاعات، وإذا ذكرته بصحابي ما وقلت له: كان يفعل كذا وكذا، يقول لك: والله أنا لست صحابياً، فأنا لست عبد الله بن عمرو ولست أبا ذر، وقد يرتكب المنكرات، فإذا ذكرته بصحابي تغلب على شهوته وامتنع عن المنكر، قال لك: والله أنا لست صحابياً فلست أبا بكر ولا عمر وهكذا.
والحقيقة أن هذا شيء خطير جداً، أن يفتقد المسلمون قدوتهم الصالحة، أن يعتقد المسلمون أن هذه القدوات قدوات غير عملية، أو أن اتباعها ضرب من الخيال.وسنتكلم بمشيئة الله تعالى عن سبب خامس
مهم جداً أدى إلى اعتقاد كثير من المسلمين إلى استحالة تقليد الصحابة، ولذلك عندما نعالج هذا السبب -في اعتقادي- سيؤدي إن شاء الله إلى خير كثير، وسيكون عند كثير منا أمل في الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة إن شاء الله تعالى. 

عدم دراسة سيرة الصحابي كاملة

خامساً: أن كثيراً من المسلمين يأخذ قصة الصحابي من نصفها، فيبدأ في دراسة حياة الصحابي منذ لحظة إسلامه، ويغفل تماماً الفترة التي عاشها الصحابة في الجاهلية، وينسى كيف كان الصحابي قبل أن يصير إلى ما صار إليه، لذلك إذا قمت بدراسة حياة الصحابي كوحدة متكاملة، فدرسته في جاهليته، ثم درسته في إسلامه، وقرأت عن أخلاقه قبل الهداية، وأخلاقه بعد الهداية، وعلمت أهدافه وطموحاته قبل أن يمن الله عز وجل عليه بهذا الدين، وقارنتها بأهدافه وطموحاته بعد أن أصبح مسلماً، عند ذلك تعلم أن الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة ليس بمستحيل،
لأن كثيراً من الصحابة بدءوا بدايات أصعب بكثير من بدايتنا،
فأنت عمرك -مثلاً- ما سجدت لصنم أو عبدت شجرة، وليس كل المسلمين كانوا مدمنين على الخمر قبل الهداية، وليس كثيراً من المسلمين قعد سنوات من عمره لا بأس بها يعذب ويقتل في المؤمنين، ولست من قبيلة بينها وبين قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم عداء طويل وقديم مستحكم يصدك عن الإيمان، فكثير منا كانت بدايتهم أفضل بكثير من بدايات الصحابة، فإذا كان الصحابة الذين بدءوا هذه البدايات الشاقة قد وصلوا إلى هذه الدرجة، فمن البديهي أن الذي بدأ من درجة أفضل يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، لكن بشرط أن يسير في نفس الطريق الذي ساروا عليه، والذي غيَّر الصحابة ونقلهم هذه النقلة الهائلة من عباد الحجر إلى قواد البشر، ومن أذل الناس إلى أعز الأولين والآخرين، ومن أمة لا يأبه بها ولا يعتد برجالها ولا نسائها، بل ولا يعتد بوجودها أصلاً إلى أمة تسود البلاد والعباد، وتبني حضارة ما عرف التاريخ مثلها أبداً، وليس في ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، بل في سنوات معدودة،
هو ببساطة: الإسلام،
فالذي غيَّرهم هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، والذي غيرهم هو اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي غيرهم هي هذه الكلمة الخالدة العظيمة والثقيلة جداً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله،
لذلك كان كثيراً جداً ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم للناس في مكة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي قال الكلمة بصدق ملك العرب والعجم.
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله).
والقرآن الكريم كتاب عجيب ومعجز، لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي غرائبه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨]، وتخيل نفسك تحمل كتاباً لا يستطيع أهل الأرض جميعاً على اختلاف علومهم وخبراتهم وفنونهم ومعارفهم وبلدانهم وأزمانهم الإتيان بمثله، وإعجازه متجدداً ومتعدد:
إعجاز لغوي،
وإعجاز بلاغي،
وإعجاز علمي،
وإعجاز تاريخي،
وإعجاز تشريعي،
وإعجاز غيبي،
يخبرك عن أشياء لم تحصل بعد وستحصل يوم القيامة، هذا هو إنباء العليم الخبير سبحانه وتعالى، وأنواع مختلفة ومتعددة من الإعجاز.
# كن صحابيا
# راغب السراجي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة