مفهوم الأخلاق لدى الفلاسفة

مفهوم الأخلاق لدى الفلاسفة

لا أريد تفصيل القول في اتجاه كل فلسفة في الأخلاق ولكن أريد أن أعطي فكرة موجزة عن بعضها، وهي المهمة في نظري.

وفي هذا الصدد سأعرض أولا بعض الاتجاهات في المذاهب الفلسفية المختلفة وأتبع ذلك باتجاه الفلاسفة الأخلاقيين المسلمين، وذلك لما بين الفلسفتين من الصفات المميزة، وإن كانت هناك صفات أخرى مشتركة.

فمن الناحية الأولى توجد عدة اتجاهات مختلفة منها:

الاتجاه الاجتماعي الوضعي:
فقد ذكر "ليفي بريل" الذي يتبنى هذا الاتجاه ثلاث دلالات أو معان لكلمة الأخلاق، وهي الدلالات الآتية:

أولا: تطلق كلمة الأخلاق على مجموعة من الأفكار والأحكام والعواطف والعادات التي تتصل بحقوق الناس وواجبات بعضهم تجاه بعض، والتي يعترف بها ويقبلها الأفراد بصفة عامة في عصر معين أو في حضارة معينة.

ثانيا: أنها تطلق أيضا على العلم الذي يدرس هذه الظواهر، كما أن علم الطبيعة هو العلم الذي يدرس الظواهر الطبيعية، وبذلك يتميز علم الأخلاق عن العلوم الطبيعية الأخرى، وإذا كانت هذه العلوم الأخيرة تتميز عن موضوعها في الدلالة، فإن علم الأخلاق يدل على العلم وعلى موضوعه في آن واحد.

ثالثا: وأخيرا تطلق الأخلاق على تطبيقات هذا العلم.

وعلى هذا يفهم من تقدم الأخلاق تقدم الحياة الاجتماعية مثل: زيادة العدالة والتعاون والأمن والطمأنينة، وما إلى ذلك.

وأهم صفات أو خصائص الأخلاق عند "دور كايم" الواجب أو الخير من حيث إنه نظام وقاعدة للسلوك الاجتماعي، ومن حيث إنه يضع للسلوك الإنساني غاية خيرة ويجذب إرادة الناس إلى عمل الخيرات، وهذه الواجبات وضعها المجتمع لتحقيق الخير لنفسه وبناء على ذلك تكون الأخلاق في نظر الاتجاه الاجتماعي علما وضعيا واقعيا يدرس سلوك الإنسان مرتبطا بزمانه ومكانه، وليس علما معياريا مثاليا يدرس السلوك من حيث ما ينبغي أن يكون عليه وفقا للمثل العليا التي يؤمن بها المجتمع على أنها فوق موضوعاته.

ومنها الاتجاه المثالي العقلي الذي يفهم الأخلاق على خلاف الاتجاه السابق تماما، فهو يرى أن الأخلاق هي السلوك الإنساني كما ينبغي أن يكون وفقا للمثل العليا التي توجب على العقل الإنساني أن يسايرها في سلوكه لا لغاية بل لأنها واجب.

فالشعور بأن هذا السلوك أو ذاك واجب هو الذي يضفي عليه الصفة الخلقية، إذن فالأخلاق بناء على هذا الاتجاه علم معياري لا وضعي كما ذهب إليه الاجتماعيون الوضعيون.

ومن أهم خصائص الأخلاق في هذا الاتجاه -على نحو ما ذكره الدكتور توفيق الطويل- أنها عامة وليست جزئية، ضرورية وليست عرضية، واضحة بذاتها لا تقبل برهانا ولا تقبل شكا ولا جدلا ولا تحمل تناقضا.

وقد تمثل هذا الاتجاه في أضيق صوره، أو ذروة مثاليته لدى الفيلسوف الألماني "كانط" وهو يتفق في اتجاهه العقلي مع الاتجاه العقلي اليوناني في الأخلاق الذي يتمثل لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو وإن كان يختلف عن هؤلاء في الهدف الأخلاقي إذ إنه أنكر أن يكون للأخلاق هدف أو غاية وإن كانت الأخلاق تؤدي بطبيعتها إلى الخير العام، إلا أنه ينبغي ألا تتبع الأخلاق بهذه النية، بل بنية أنها الواجب فقط لا غير، ولذلك يسمي الأخلاق علم الواجبات، أما أولئك الفلاسفة فقد اتفقوا على أن تكون الأخلاق غاية وهي الخير أو الكمال الإنساني أو السعادة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.

ومن تلك الاتجاهات الاتجاه النفعي:
ويدخل فيه ثلاثة مذاهب: الأول مذهب المنفعة الشخصية،
وله صورتان: صورة دعا إليها "أرستبوس" تلميذ سقراط الذي فسر السعادة عند سقراط باللذة، ودعا إلى اللذات الحسية الفردية العاجلة،
وقال: على المرء أن يستعجلها؛ لأن تأخيرها يثير في النفس البؤس والشقاء، والحرمان، والسلوك الذي يحقق هذه السعادة القائمة على تلك اللذات أخلاقي، والمبادئ السلوكية التي تحققها مبادئ أخلاقية ونجد صورة أخرى لهذا المذهب،
وهي المنفعة الفردية التي دعا إليها "هوبز" ومن سلك مسلكه، فقد ادعى "هوبز" أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أنانية تعمل لمصلحة الذات، وقد اخترع المبادئ الأخلاقية متخذها وسيلة لتحقيق منفعته الشخصية، ولهذا يرى أن الأخلاق توضع وسيلة لتحقيق المنفعة وليست طبيعة في الإنسان،
والفرق بين "هوبز" و"أرستبوس" أن "هوبز" يجاوز اللذة الحاضرة ويطلب النظر إلى الخير والشر الذين ينتجان عنها
ولهذا أولى أن نسمي مذهب أرستبوس بمذهب اللذة الفردية، ومذهب هوبز بالمنفعة الفردية وتجمعها صفة الأنانية الشخصية.

الثاني: مذهب المنفعة العامة الذي دعا إليه "بنتام" و"جون ستورات ميل" وغيرهما قالوا: إن على الإنسان أن ينشد منفعة البشر عامة حتى الحيوانات.
وقد اشترك "مل" مع "بنتام" في إقرار المنفعة غاية للأفعال الإنسانية ومعيارا للأخلاق، وتقاس أخلاقية الفعل بنتائجها لا ببواعثها، والجزاء هو العامل الوحيد لفعل الخير وتجنب الشر، وزاد "ميل" على "بنتام" بتقرير الجزاء الباطني والوجداني.

الثالث: مذهب النفعية العملية "المذهب البرجماتي":
يعد هذا المذهب -الذي يمثله جون ديوي في مرحلته الأخيرة- صورة من الاتجاه النفعي أو فرعا متطورا منه كما يقول الدكتور توفيق الطويل.

فقد اتفق المذهب البرجماتي مع النفعية في إرجاع الأخلاق إلى نتائج الأعمال دون بواعثها، ويهتم البراجماتي بالنجاح العملي وما له من قيمة معنوية، عكس النفعية التي تجعل الأعمال تجارية وصناعية وترد الأخلاق إلى تحقيق ذاتية أو رغبات شخصية أكثر من خدمة اجتماعية إنسانية.

وخالف الواقعيين التجريبيين؛ لأنهم يرفضون الأفكار المطلقة والمبادئ الميتافيزيقية، فإنها في نظره إذا أدت إلى تحقيق عمل نافع لا مانع من قبولها ولو لم تكن صحيحة في ذاتها؛

لأن قيمة الشيء ليست في حقيقة وجوده بل فيما يحقق من فائدة عملية، ولو لم يكن موجودا في حقيقة ذاته، وأرجع المثل الأخلاقية إلى نتائج الظروف الواقعية للإنسان، فهي ليست مبادئ مطلقة ثابتة.
يضعها الفلاسفة، كما يدعي المثاليون، وليست من وضع المجتمع كما يدعي الوضعيون الاجتماعيون، وليست من وضع السماء كما يدعي رجال الدين، ثم أنكر أن تكون للأخلاق غاية علية سامية ثابتة وأن لها مبادئ مطلقة لا تقبل التغير؛
لأن الحياة متطورة، ومغزى هذا المذهب أنه جعل أساسا هدف الإنسان في الحياة العمل المنتج النافع، وبناء على ذلك اعتبر كل فكرة أو اعتقاد يؤدي إلى العمل الناجح أمرا قيما بصرف النظر عن قيمتها العلمية أو المنطقية أو الحقيقية، ومن ثم اتفق عنده أن معيار الخطأ والصواب أو الحق والباطل، ومعيار الأخلاق هو تحقيق المنفعة العملية،
وعلى ذلك فقد عرف ديوي الأخلاق بأنها "كل ما ينطوي عليه العمل من عمليات الإمعان أي: الموازنة والتروي والرغبة أو الدوافع سواء كانت هذه العمليات قريبة أو بعيدة".

وأخيرا هناك اتجاه الطبيعة البشرية، ويسمي هذا الاتجاه الأخلاق أحيانا بأنها علم السجايا الإنسانية؛ لأنه يحاول أن يستخلص المبادئ الأخلاقية عن طريق السجايا الإنسانية.

ومفهوم الأخلاق في هذا الاتجاه عموما هو عبارة عن مبادئ للسلوك الإنساني تنبع من طبيعة الإنسان، غير أن القائلين بهذا الاتجاه لم يتفقوا على هذه الطبيعة، ولا تحديد تلك المبادئ التي تحدد السلوك الأخلاقي، ومن ثم ذهبوا مذاهب مختلفة في تفسير سلوك الإنسان وبيان دوافعه.
فقد ذهب "شفتسبوري"

Shaftesbury إلى أن في الإنسان ميولا اجتماعية طبيعية وعاطفة إنسانية نبيلة يدركها كل منا عندما يتأمل في إعجابه بالنبل وميله إلى التعاطف مع الآخرين وحبه الخير لهم.
وقد أيد وجهة نظره هذه "هاتشيسون" عندما أكد وجود حاستين خاصتين في الطبيعة الإنسانية:
إحداهما حاسة الجمال، والأخرى حاسة الخير، وبهما يكشف الإنسان جمال السلوك الأخلاقي وخيريته، ويندفع إلى عمل الخيرات، وإصدار الأحكام على الأفعال.

ومن أنصار هذا الاتجاه "آدم سميث" الذي أثبت في الإنسان غريزة التعاطف الإنساني، وجعلها منبع الأخلاق الإنسانية.

كما سار على هذا النحو "جان جاك رسو" الذي يرى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة طيبة، لكن المدنية هي التي تفسد هذه الطبيعة، لذا يرى أن الفساد الخلقي من نتاج المدنية، والأخلاق الإنسانية ناتجة أساسا من هذه الطبيعة الطيبة،

يقول روسو: "إن في قرارة النفوس مبدأ فطريا للعدل والفضيلة، نقيس إليه أفعالنا وأفعال سوانا من الناس، ونحكم عليها بالخير أو السوء، وهذا المبدأ هو الذي أسميه الضمير".

ويقول روسو أيضا: "يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في يد البشر يلحقه الاضمحلال.. يقلب كل شيء، ويشوه كل شيء، يحب المسخ والإمساخ، ولا يريد شيئا على الوجه الذي برأته به الطبيعة حتى ولو كان ما برأته الطبيعة إنسانا مثله، فهو يأبى إلا أن يروض له كأنه جواد ركوب، وأن يصاغ على هواه كأنه شجرة في بستانه"،
وهذا ضد الاتجاه المسيحي الذي يرى أن تلك الطبيعة الإنسانية شريرة في أصلها.

ومن مذاهب هذا الاتجاه مذهب العاطفة الجمالية الذي ذهب إليه جون روسكين "John Ruskin" والذي يرى أن الإحساس بجمال الطبيعة وآثار الفن البديعة هو الأساس للشعور الأخلاقي، ولقد بالغ في الأمر حتى اعتبر تعبد الجمال أخلاقا، فالجمال الذي أبدعته يد الخالق والجمال الذي صنعته يد الفنان كلاهما يهب الإنسان سموا ونبلا، والإحساس بذلك يؤدي إلى السعادة الروحية التي هي هدف الأخلاق.

ومن أنصار هذا الاتجاه "شوبنهور" الذي أعاد أساس الأخلاق إلى غريزة التعاطف والتراحم، فقال: "إن التعاطف المباشر وهو شعور غريزي يقصر وحده عن بناء الأخلاق ولا بد من عاطفة الرحمة" وشبيه بهذا ما ذهب إليه "وليم مكدوجل" حيث إنه أثبت مجموعة من الغرائز أو الميول الفطرية في الطبيعة الإنسانية وعلى رأسها مراعاة الذات والحنان والتقزز من كل ما هو كريه ومنبوذ واعتبرها استعدادات أولية للأخلاق والتنمية الأخلاقية.

وأخيرا من أنصار هذا الاتجاه "فولتير" الذي أرجع قانون الأخلاق إلى الطبيعة الإنسانية فقال "وما هذا القانون الطبيعي إلا القانون الأخلاقي الذي أودع الله في غريزة جبلتنا محبته والتقيد به والحفاظ عليه".
هذا أحد وجهتي النظر في فطرية السلوك التي مرجعها النفس والقلب، وهناك وجهة نظر أخرى تقول بوجود ملكة عقلية -لا ملكة نفسية أو قلبية كالأولى- تصدر أحكامها على أفعال الإنسان، وأحكامها بريئة عن احتمال الخطأ، وترى أن بعض الأفعال في ذاتها حق وعدل وخير، وبعضها الآخر باطل وظلم وشر، وأكبر مؤيد لهذا الاتجاه هو "بطلر"
الذي قال "إن الفضيلة طبيعية في الإنسان والرذيلة انتهاك لطبيعتنا، إذ هي نوع من تشويه الذات".

ويقول "جون كارل فلوجل" مؤيدا وجهة النظر هذه، ومبينا مدى وضوح تلك المبادئ الأخلاقية في الطبيعة الإنسانية أو في عقل البشر "إن الأخلاق "بمعنى المثل العليا التي نسعى وراءها، والقيود التي تفرض وتراعى والآثام التي نشعر بها والعقاب الذي يجب أن نناله" راسخة كل الرسوخ في العقل البشري، وإن الإنسان في أساسه حيوان أخلاقي، لكن كثيرا من أخلاقياته خشن بدائي، سيئ التكيف مع الواقع، ولذلك كثيرا ما يبدو سلوك المرء متنافيا مع ما يحلم به عقله، وما يطمح إليه من سامي الآمال التي يكون متفطنا إليها"

تم مفهوم الأخلاق لدى الفلاسفة كان طويلا بعض الشيء لكن ممتع ان تعرف الموضوع من كل الجوانب والنواحي.
▪اللهم في هذا اليوم يسر حال من تعسر وافرج هموم من ضاقت عليه الدنيا وما فيها

اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين
#علم_الأخلاق_الإسلامية
#معا_نرتقي_علي_العمري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة