للحياة غاية ٢

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء"( فتح الباري بشرح البخاري جـ١١، كتاب الأطعمة ص ٤٥٦)

وليس المراد من كثرة الأمعاء هنا معناها الحقيقي بل القصد منها الكناية عن الكثرة في الأكل، ويريد من الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فهمهم الدنيا ونعيمها، يأكلون كما تاكل الانعام

(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)
[سورة محمد 12]

وكما منع الإسلام الإفراط في تحقيق الحاجات الحسية، منع أيضا الإفراط في التعبد والتنطع فيه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" ( صحيح مسلم جـ٤ ص ٢٠٥ كتاب العلم)

وروي عن أنس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن التبتل" ( صحيح المستدرك جـ٢ ص ١٥٩، كتاب النكاح، فتح الباري جـ١١ ص ١١)

وأوضح دليل صريح على هذا نهيه -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من أصحابه اعتزموا مواصلة العبادة وترك كل شيء ما عداه، فقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ( التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول جـ٢، كتاب النكاح، ص ٢٨٧)
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، قلت: نعم، قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا"( فتح الباري بشرح البخاري، كتاب الصوم، جـ٥ ص ١٢١)
أما الاعتدال في ميدان العمل فإنه ضروري أيضا؛ ذلك أن الإرهاق في العمل يؤدي إلى الإضرار بالصحة، فالإرهاق في العمل العقلي مثلا يؤدي إلى الجنون، كما أن الإرهاق في الأعمال الجسمية الأخرى يؤدي إلى الاختلال في
وظائف الأعضاء وإلى الأمراض الفسيولوجية؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" ( مسند الإمام أحمد عن أنس -رضي الله عنه -كشف الخفاء جـ١ ص ٣٠٠ )

"إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" ( فيض القدير شرح الجامع الصغير جـ١ ص ٣)

وقال: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" ( الجامع الصغير جـ١ ص ١١٦)

وقال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا" ( هداية الباري في ترتيب أحاديث البخاري جـ١ ص ١١٠)

من هذا كله نرى أن الإسلام يأمر بالاعتدال في تحقيق المطالب، ويأمر أيضا بالعدالة في إعطاء كل ذي حق حقه، وبالاعتدال والعدالة في الأعمال كلها، حتى تتحقق الصحة الكاملة، وتنتظم أمور الدنيا، والسعادة تتبع الاعتدال أو العدالة في كل الأمور،
يبقى بعد هذا كله العنصر الأخير والهام لتحقيق السعادة في رأي الإسلام وهو: تحديد الغاية الكبرى للإنسان في هذه الحياة، وأن يكون تحقيق هذه مقرونا بتحقيق السعادة الكاملة، وهذه الغاية هي الفوز برضا الخالق والدخول في دار الرضوان، دار السعادة الأبدية؛ وذلك بعد الانتقال من هذه الحياة الدنيا.
إن ربط الإنسان مصيره بالسعادة له دور كبير في إحساسه بالسعادة في مختلف الظروف مهما تكبد في سبيلها من عناء ومشقة؛

لأن السعادة أمل الإنسان دائما، إن عاجلا أو آجلا، وهذا الأمل هو الذي يبعث في نفس الإنسان الاطمئنان والرضا، لذا قال تعالى:

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)
[سورة الفجر 27 - 30]

هذه الجنة تنعم فيها تلك الوجوه التي تحقق غايتها من وجودها، تنعم بنعم لم ترها أعين ولم تسمع بها آذان ولا خطرت على قلب بشر

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)
[سورة الغاشية 8 - 16]

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)
[سورة محمد 15]

وفيها

(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)
[سورة الرحمن 56 - 58]

وقد روي عن الرسول أنه: "ينادي مناد في أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا" ( التاج جـ ٥ ص ٤٢٢ )

تلك هي السعادة الحقيقية الأبدية
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)
[سورة هود 108]

وذلك هو الفوز الأكبر، والمصير السعيد لسعي الإنسان، كما قال تعالى:
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
[سورة التوبة 72]
صدق الله العظيم

(سنكمل حديثنا بإذن الله في المرة القادمة....انتظرونا) 

اسعد الله اوقاتكم بكل خير
#علم_الأخلاق_الإسلامية
#معا_نرتقي_علي_العمري

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة